الأحد، 27 أغسطس 2017

و كأنها النهاية - قصة قصيره -

-        - والآن سأخبرك قصة لا تعرفها  خلف تلك الصوره 
-         -أنا متحمس جدا يا أمي فلتبدأي حالا..
-" خرج  سعيد متسللاً  كعادته في مثل ذلك اليوم من السنة ، سابقا كان  ايمانه بالبدايات قد وصل الى حد اليقين بها فعلى منوالها تجرى بقية الأحداث و على ذات نهجها يتلاعب بنا العمر ككرة مطاطية لا تسأم الدحرجة و لا يضيرها التلاقف . أربعون بداية مختلفة ، و ما زال حائرا  ،  فقبل اليوم المنكود  كان ينتظر السنه تلو السنه تحرقا لبداية أفضل من التي مضت .
عُرف سعيد دوما بخفته وانطلاقه واقباله على الحياة ، يعشق الموسيقى يألفها فألفته
عندما قرر وهو في العشرين من عمره أن يغير مساره و يلتحق بمعهد الموسيقى غير آبه بتوجيهات والديه وتعنتهما  ،  قرار لم يكن بالهين بالنسبة له ولكنه كان حتمي كحتمية الموت ، من يومها فقد وهب نفسه للموسيقى ينفق عليها ساعات من يومه في التدريب و من جيبه  في تلك الحصص الاضافيه ، صار يتصدق على الموسيقى  فتغدق  هي عليه  سخية بالألحان  .
اليوم يكمل عامه الأربعين  ،  وفيي قلبه نار لا تخبو جذوتها و لا يصمت حسيسها ، تلفح أنفاسه وتنال منه منذ يوم النكبة كما يسميه ، صار منكودا حزينا ، لم يكن بذلك الرجل الذي تعصف به النكبات فتكسره و تثنيه ، ولكن هناك مصائب لا نقوى عليها نحن بنو آدم ، تشكك ايمانه بالله صار يناديه ليلا ونهارا ، طالما انت حولي و بصحبتي فلما لا تنظر الى حالي و تخرجني مما أنا فيه ، أنت واسع الحيلة و أنا مصيبتي كبيرة كبيرة جدا ويبكي في جنح كل ليلة ،و على وسادته قبل كل نوم تجوب الألحان في نواحي عقله فيحلق معاها الى ان يخلد هاربا من واقعه المرير الذي  ألم به.
في مثل ذلك اليوم من السنة ماضية وقبل وقوع تلك النكبة ، قد قرر الاحتفال  كعادته ببداية يرجوها مختلفه تؤذن بعام قد يكون أفضل من سابقه  . أخذ كمانه و توجه الى كورنيش النيل وفي تمام الثانية عشر صباحا  ، أغمض عينيه و سحب زفيرا طويلا و أراح كمانه على كتفه ومال عليه بصدغه يحتضنه ويطمئن اليه ثم التقط العصا بيمناه و بانسيابية شديدة بدأ رحلته أمام أسماع الناس و أنظارهم ، يشعر دوما حين يهم بالعزف بانقطاع  عن عالمه الخارجي  سابحا في أطياف عوالم أخرى تحويه و تيقظ خيالاته ،  يعزف متمايلا كموجة حائرة على شاطئ بحر  هائج ، يحاول ترويض العصا الى لحنه  ولكنها تشطح  منه الى لحن أرق و أعذب ، فيتبعها و يؤمن بها ، تجمع حوله الناس واصطفوا متأملين ساهمين ، غريبة هي الموسيقى تسكن الطباع و تروض النفوس و تفك جبين قطبه الزمان ، وترسم ابتسامة على وجه تغضن من طول العبوس ،  يستمر في العزف غير آبه بمن حوله تائها في أكوانه، فلحن يلمس ذكرى أول حب و أول لقاء و آخر ينكأ جراح أول فراق  ، ولحن  يذكره بأمه و ضمتها له ولحن ثائر يثور عليه  ، وهو بين هذا وذاك يعيش نصف حياة ويموت نصف موت . حتى أفاق على تصفيق العامة الشديد الراكب منهم والراجل  ، فتح عينيه  فيتهيأون له كملائكة بيض الوجوه  يشرئبون بأعناقهم له  و هو يرتقي بروحه نحو نعيم لطالما انتظره .
اليوم ينتظر الثانية عشر أيضا متسللا من شقته  متثاقلا  متأبطا كمانه دون عصاه ، ينظر الى يمناه ويبكيها ، يوم النكبه الذي حل عليه منذ خمسة أشهر أحال بينه وبين المزيد ، و كأن القدر ذاك متزمتُ يبغض الجمال ، يستل سيفه ليبتر الألحان من قلوب عاشقيها ،  بُترت ذراع سعيد اليمنى في حادثة على الصحراوي ومن يومها لم يذق للدنيا طعم غير مرارتها المعهودة . توجه الى ذات المكان على الكورنيش بعد  مشي دون هدي  دام ساعتين ،  نظر الى كمانه و أسهب و كأنه يحدثه أو يلومه على ما ليس له ، يترقرق الدمع فيي عينيه ثم يجثم على ركبتيه  حتى يلامس صدره فخذيه ثم يجهش بالبكاء .
يعجب المارة لحاله ولا يستوقفهم ، الى أن أقبلت  صبية مهرعةً اليه    في مقتبل عمرها تحمل على ظهرها شيئ ما  ، تنحني اليه  بتلقائية و تعدل من جلسته و تسنده الى السور الحديدي . ثم تلتقط  عصاها من حقيبة الكمان التي على ظهرها ، وهو لايفعل شيئ غير  الاسهاب والحملقة فيها ، تعدل من هيأتها ومن فستانها و تنتصب بجزعها وتلتقط الكمان .
أخذ يببكي ويبكي ويبكي ، ويهز رأسه لها بأن  " لا تتوقفي " ثم يبتسم ويبتسم  وهي في تألقها و تمايلها كالحور عين ،  فيتبعها و يؤمن بها  ، تجمع حولها الناس واصطفوا متأملين ساهمين ، غريبة هي الموسيقى تسكن الطباع و تروض النفوس و تفك جبين قطبه الزمان ، وترسم ابتسامة على وجه تغضن من طول العبوس  . "
ثم تصفيق  يدوي من المارة الراكب منهم والراجل ، وهم يتوجهون بأنظارهم نحوه لا نحوها يصفقون له لا لها  . تنتهي من عزفها فتنحني اليه وتحتضنه وتغالب دمعا ينساب منها  " هون عليك يا أبي ، كم أنا فخورة بك "    "
-        -- أكملي يا أمي ثم ماذا
-         --كم أنا فخوره به حقا وهو الآن  عند  ربه ، تمعن في الصوره  ، جدك ذلك الباسم ذو اليد الواحده  ينحني اليه رئيس النمسا تمجيدا له ،  لم تتوقف مسيرته و وأنشأ تلك الأكاديمية لتعليم الموسيقى في النمسا  ونال بها صيتا واسعا  و أنا الان أُدرس  فيها بفضل منه.